الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ اللَّهَ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَالَ لَهُ: وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ».وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ، فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ}.قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك}؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ، وَلَمْ يَعْرِضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ، وَلَا تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: لَمَّا حَكَّمُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ، وَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ.قَالَ مَالِكٌ: إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا فَحُكْمُهُ مَاضٍ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا بَيِّنًا.وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُمْضِيه إنْ رَآهُ.قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ.وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ.وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّحْكِيمُ جَائِزٌ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ، فَإِذَا قَالَ: حَكَّمْت، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا، وَلابد أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا، فَإِذَا أَفَادَ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك: كَلَّمْته وَقَلَّلْته، أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ، كَقَوْلِك: رَكَّبْته وَحَسَّنْته، أَيْ جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا.وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَلابد مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ، لِتَتِمَّ الْمَصْلَحَتَانِ، وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ.وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ، وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ، أَخْبَرَنَا الْجَوْنِيُّ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا قَلِيلَهْ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ «هَانِئٍ قَالَ: لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ: إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ.فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ؟ قَالَ: لِي شُرَيْحٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَمُسْلِمٌ.قَالَ: فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ؟ قَالَ: شُرَيْحٌ.قَالَ: فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ وَلِوَلَدِهِ».الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: كَيْفَ أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ؟: اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْإِمَامُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ.الثَّانِي: حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ، إذْ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا.وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ.الثَّالِثُ: إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ، وَلَا يَحْكُمُ الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: فِي الْمُخْتَارِ: أَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِمْ، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِمْ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ.وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، فَقال: {فَإِنْ جَاءُوكَ}.ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}.ثُمَّ قَالَ لَهُ: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ}، وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: وَالْقِسْطُ هُوَ الْعَدْلُ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا عُدُولٌ؛ إذْ لَيْسَ فِي الْكُفَّارِ عَدْلٌ، كَمَا تَقَدَّمَ.وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا شَرَحْنَا؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ.وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى يُنْسَخَ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ بِالْعُدُولِ مِنَّا. اهـ.
|